سليم صفي الدين يكتب: جمهورية مصر البدوية!

ركن القراء

سليم صفي الدين
سليم صفي الدين


الحديث عن المستقبل فى مصر يختلف كل الاختلاف عنه فى أى مكان آخر فى العالم، فالمستقبل دائمًا يبدأ من الحاضر، إلا أنه لدينا لا علاقة للحاضر بالمستقبل، إنما ينخرط وينعجن بالماضى، فيظل أسيره حتى يطغى عليه، فيصير الماضى هو الحاكم الحقيقى والمتحكم الأوحد فى الحاضر، وعليه يمكن استشراف المستقبل مجهولاً بلا هُوية ولا خطط ولا معنى.

أندريه مالرو، فيلسوف وروائى فرنسى، قال إن المستقبل هو الحاضر الذى يخلّفه الماضى لنا، ورغم التقديمة التى بدأت بها مقالى، فإننى أتفق تمامًا مع هذه الجملة، فقط فى حالة أن الحاضر الذى كان مستقبلاً فى ما ماضى هو حاضرنا نحن كمصريين، وليس ماضيًا مجلوبًا من تاريخ لا يعنينا ولا ينتمى إلينا، والأغرب أن نترك على أثره حاضرنا ومستقبلنا ونعيش فيه، فيحكم هُويتنا وطباعنا وتفكيرنا. حتى الذين نقول إنهم قادة التنوير والثقافة لا يختلفون عن العامة فى الانغماس فى مناقشة هذا الماضى، تارة تحت مسمى "النقد"، وأخرى من أجل تلميعه بالقراءات التاريخية المختلفة.

التاريخ المصرى القديم أكبر من الحديث عنه فى سطور معدودة، وأكبر من التلميح إليه من أجل تذكير الناس به، فتاريخنا تعرفه الأرض بمن عليها، لكننا نحن أكثر الناس جهلاً به!  كذلك التاريخ الحديث سواء السياسى أو الأدبى أو الثقافى عمومًا. وحتى ينشغل الناس بموضوع معين، يجرى الحشد له فى الصحف وبرامج التوك شو، ومناقشات المثقفين وأرباب التنوير فى ندواتهم وصالوناتهم الثقافية. وبما أننى كنت من رواد هذه النوعية من الصالونات والمناقشات، ومن خلال عملى الصحفى فى الأشهر القليلة الماضية -بل لا أبالغ حينما أقول منذ ولادتى- وساسة مصر وإعلاميوها ومثقفوها وعوامها لا يتكلمون إلا عن التاريخ الإسلامى! من تزوج بمن، ومن قتل من، ومعاوية أم علىّ، والبخارى ما صحيحه وما ضعيفه، والأئمة الأربعة هل نأخذ منهم بالقياس، أم نخلق فتاوى تتماشى مع عالمنا المتطور! تاريخ بدوى لم يكمل ألفًا وخمسمائة عام، يحكم أعرق الحضارات على الأرض!

إذًا ما الغريب إن كان أحد رواد التنوير فى الوقت الحالى يتباهى بأن لديه أكثر من 300 حلقة تلفزيونية عن التراث؟ والأدهى أنه يتكلم كما لم يتكلم نجيب محفوظ عن نفسه فى ما مضى، مع الوضع فى الاعتبار الفارق الرهيب بين شخص متعالٍ لم يقدم شيئًا يذكر، وبين محفوظ الأديب العالمى. وهناك أيضًا برنامج "مختلف عليه" للأستاذ إبراهيم عيسى، الذى يناقش فيه الشخصيات التاريخية القديمة نفسها التى لا علاقة لنا بها. فضلاً عن مقالات الكتاب والمفكرين والمثقفين عن التاريخ نفسه. هذا كله إلى جانب برامج التوك شو التى فتحت أبوابها عن آخرها للشيوخ والفقهاء، الذين يثبّتون ويرسخون هذا الماضى ليستمر فى التحكم فى حاضرنا.

ولا أعرف متى يمكننا الخروج من هذا النفق المظلم ونستحضر ماضينا المصرى القديم بل والحديث، بعراقته وبرواد فكره وفلسفته. بكل تأكيد لا أدعو إلى الانغلاق على الأدب والتاريخ المصرى، بل أتمنى أن ندحض الفكر البدوى الذى سيطر على حاضرنا بمناقشة أفكار الأدباء والفلاسفة والموسيقيين حول العالم، ابن رشد، وأرسطو، وابن عربى، وابن خلدون، وجون لوك، وعمر خيرت، وفيفالدى. الانفتاح على الثقافات المختلفة هو الطريق الوحيد للحد من التطرف والعنصرية والرجعية التى طعنت تاريخنا الحضارى فى عموده الفقرى، فأفقدته أهم ما صنعه.. العقل والخيال والإبداع.

وعن نتاج هذا فحدث ولا حرج.. عنصرية، وازدراء، وقتل بنفس راضية (حسن شحاتة دليل حىّ) وتكفير، وتهجير، وتفجير، وتهديد، ومجتمع متحارب لا يعرف "غير قال الله وقال الرسول" الذى هو فى حقيقته "قال الشيخ فلان"! 

وحتى يتسنى لنا الخروج من هذه المرحلة المتخلفة فى حاضرنا، يجب الحد من القنوات والبرامج الدينية التى لا ترسخ إلا للنطاعة وتديين الأمور كافة، وتسفيه المرأة، والتحذير من القراءة والتفكير! وإطلاق العنان للمفكرين أصحاب الرؤى ومنهجيات الفكر، ورفع الحظر عن النقد فى كل المسائل، فلا يوجد شىء مهما كان لا يمكن نقده، فالتاريخ مثلاً ما هو إلا أحداث ووقائع صنعها أشخاص مهما كانت درجة تأثيرهم، فهم ليسوا أكبر من النقد. كذلك الأديان هى مجموعة من القيم والمبادئ التى تتماشى مع شخص وتلقى رفضًا من آخر. وعمومًا أى شىء لا يقبل النقد، هو هش لا قيمة حقيقة له. فقيم الأشياء تتضح من قوة ثباتها أمام عنفوان نقدها.

أرجعوا مصر المخطوفة، صاحبة الأفكار المختلفة والقيم المتنوعة، والأديان المتعددة.. مصر النسبية التى كانت (للأسف كانت) تقبل الكل ولا ترفض إلا من يرفض التنوع، فمصر الحالية أحادية التوجة بدوية التفكير لا هى مصر مينا وحتحور، ولا هى مصر نجيب محفوظ ومجدى يعقوب.