منى غنيم تكتب : مدينة النحاس

ركن القراء

بوابة الفجر


لازال الدافع غامضًا وراء واقعة تسلق الهرم الأكبر المربكة الذي قام بها شخص مجهول الهوية لإسقاط "هوائي" السطح الذي لا نعرف حتى الآن ما فائدته بالظبط، يذكرني ماحدث بنادرة من نوادر تراثنا الشعبي عن مدينة النحاس التي بناها الجن للملك سليمان وقيل أن فيها من الأعاجيب والغرائب ما لم يخطر يومًا ببال بشر، حدث ذات يوم أن حاول الأمير موسى بن نصير اقتحامها بأمر من الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان الذي شُغف حبًا بأسطورتها وأراد إرسال جيش لاقتحام المدينة ليعلم بنفسه ما الذي يجري بالداخل، حين وصل رجال الخليفة الأشداء لسور المدينة الشاهق العجيب حاولوا تسلقه فبنوا برجًا كاملًا ولم يستطيعوا بلوغ قمة السور فوضعوا فوق البرج سلالم خشبية تسلقها أحد أدلاء الأمير بصعوبة بالغة حتى وصل أخيرًا للقمة ليلقى نظرة، فما كان منه إلا أن تغير ناظره وسُلِب لبه وظل يضحك ويضحك حتى سقط، صحيح أن موسي بن نصير حاول دخول المدينة بعدها بأكثر من طريقة وفشل حتى أنه تعرض لبعض هجمات الجن وفقد بعضًا من رجاله، ولكنه في خضم كل ذلك نجح بالمصادفة في تحرير بعض الجان الذين كان قد سجنهم سليمان في البحيرة جوار المدينة؛ كان جنوده يستخرجون من البحيرة آنية نحاسية عجيبة على شكل فقاقيع وعندما فتحوا غطاءها انطلق الجن المحبوس داخلها طيلة هذه الأعوام ممتطيًا ظهر جواد من نار وأقسم بصوت مسموع لسليمان ألا يعود للمدينة ثانية ثم تبخر في الهواء، يعجزني فرط التشابه بين آنية الأمس النحاسية وأقبية اليوم الفولاذية التي سُجنت فيها الحقوق والوعود والحيلة والحرية ونشوة الأمل بلا فرج يلوح في الأفق.

لو تحرر أحدٌ من جان النحاس اليوم ستراه قادر على فعل أي شىء، ربما أكثر الأفعال جنونًا واندفاعًا، ربما ترك مدينة النحاس برمتها بلا عودة وطار على ظهر جواد من نار مخلفًا وراءه ماضيه وذكرياتها، ربما شوّه أو دمر أو سرق بعض آثار الغندورة التي تغندرت ثم غدرت، ربما أصابه قبسًا شاعريًا من الجنون فانطلق في الشوارع والميادين يقرع "أغطية الحلل" ويصفر كالعلجوم بالغ النمو الذي ينعق في طلب الأنثى فقط ليشعر أنه قادر على فعل شىء، أي شىء، فقط ليشعر بأن له وجود حقيقي ومؤثر بعد كل هذه الأعوام المضنية في الأسر، لن تتعجب كثيرًا إذا رأيته يهرول ذات يوم بكسرولة على رأسه لأنه رفض قرار سيادي ما أو تعديلات دستورية معينة أحس أنها لن تعود عليه بالنفع بل وربما جرته جرًا ذات يوم لنفس القبو النتن المظلم الذي حُرِر منه، وقوبل رفضه بالرفض، ربما علّق مشنقة لطيفة حول رقبته وقفز من أعلى كوبري آملًا في حياة أكرم بعد الموت يحظى فيها بحقوقه، لا يوجد فيها خطوط حمراء ولا بعابع كتلك البقعة المظلمة من الكوكب الأزرق، ربما تسلق الهرم ليلًا من أجل نشوة التسلق ولم يجد شيئا يفعله أفضل من إلقاء "الإريال"! هناك من يذكرونني في عصرنا بالجني العملاق الذي خرج من نفس البحيرة في نفس القصة فهال الجنود مرآه ولكنه قال أنه خرج لما سمع أصواتهم ظنًا منه أن بينهم "صاحب الكلام"، وعندما سألوه من صاحب الكلام؟ قال أنه إنسي لا يعرف اسمه ولكنه يمر بالبحيرة مرة كل عام فيقف على مبدأها ويذكر الله ويستغفر ويدعو للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات ثم ينصرف وعندما يسأله عن اسمه أو سبب وجوده لا يجيب، هكذا، ترتعد فرائص الجنود الشجعان من مرأى الجن لكن ليست فرائص ذلك الغريب العجيب "الصِنديد"، الذي لا يخشى جني البحيرة ولا يخشى الجن بل لا يعير وجودهم وزنًا من الأساس! البعض الآن يخرجون من أقبيتهم يسألون جميع الأسألة الغير هامة ويتلقون جميع الإجابات غير ذات الصلة، يحدقون في الفراغ فحسب فيحدق فيهم بدوره، لا يرجون من التغيير شيئًا؛ جل ما يتمنونه هو الحياة مع إمكانية إجراء لقاء عبثي مع أحد الغرباء الذي لا يفعل شيئًا أفضل من الدعاء، ولا يضيف لواقعهم شيئًا ولا لماضيهم ولا لمستقبلهم، ومع ذلك هم يقدسونه ويتدروشون به وينتظرونه كالأهله ويتفانون في محرابه لأنه مُخلِّصهم، من ماذا؟ من باقي الجان المحبوسين على الأغلب.

يقول أنيس منصور أنك لو تذوقت فنجان القرفة وهو ساخن لن تعرف طعمها؛ لأن اللسان الملسوع لا يتذوق القرفة، لا يتذوق شيئًا، فهل لازال النحاسيون قادرين على التذوق؟ أم انتقلت حواسهم إلي الأمجاد السماوية؟ تقول الفلسفة الهرمسية المبجلة وبالتحديد في لوحة الزمرد الأسطورية التي قيل أنها تحوي أسرار الكون في التلاعب بالمادة والتي مهدت الطريق لصنع حجر الفلاسفة الأسطوري الذي قيل أنه يحيل الرصاص إلى ذهب! والتي نقش تعاليمها هرمس الهرامسة بنفسه- الذي يظن البعض أنه نبي الله إدريس- أن: "كما بالأعلى كما بالأسفل"، أو "كما فوق كما تحت" في إشارة إلى قوة الترابط بين مستويات الأشياء في الكون الواحد؛ وأن ما يحدث في مستوى واحد من مستويات الوجود يؤثر بالضرورة على المستوى الأخر؛ فالفضاء العامر بالكواكب والمجرات والنجوم على سبيل المثال يؤثر فينا نحن الأفراد على الأرض ونحن أيضًا نؤثر فيه، ما يؤثر في أرواحنا العليا يؤثر في أجسادنا السفلى والعكس صحيح، في سلم النفس هناك من يرتقي وهناك من يهبط، يخيل لي أن واقعة الهرم قد وازنت قليلًا بين المتناقضات السافرة ونقلت بعضًا من الفوضى من الأسفل إلى الأعلى، فلتجربوا الجنون الذي نحيا به يا رفاق في الأسفل! فلتنقلب موازين عالمكم قليلًا لربما هناك طريقة لتحويل رصاصكم إلى ذهب.