أحمد عبد الوهاب يكتب: نيوزلاندا من المحنة إلى المنحة

ركن القراء

أحمد عبد الوهاب
أحمد عبد الوهاب


في الثاني عشر من مارس 2019 استيقظ العالم على كارثة ارهابية لم يسبق لها مثيل في بلاد الغرب عامة وفي نيوزلاندا خاصة. هجوم على إحدى دور العبادة لإحدى الأقليات في البلاد راح ضحيته 50 نفسا بشرية. فرصة عظيمة للتحدث عن الارهاب، وبالطبع لن يخلو الحديث من ذكر الإسلام، كدين تم ربطه في الفترات الأخيرة لأغراض سياسية بهتانا بالعنف والتطرف. تجهزت الصحف للحديث عن الارهابي المسلم الذي طالما، بحسب مزاعمهم افتراء، دبر وأرهب وخرب. وبالفعل كما توقع الكثيرون فقد ارتبط الحادث بالإسلام، لكن المفاجأة هذه المرة أن الإسلام هو المجني عليه وليس الجان كما كان متوقع و منتظر.

لم يحدث هذا في بلد من بلاد الشرق الأوسط حيث تنتشر، بفعل فاعل، العمليات الإرهابية، بل إنه لم يحدث في إحدى الدول الأوروبية محط أنظار العمليات الارهابية، ولكن في بلد سلميّ تكاد تنعدم فيه نسبة الجريمة عموما فضلا عن الإرهاب. والأهم من ذلك أن الجاني قام بتوثيق جريمته، فلم يترك مجالا للتصريحات الصحفية المتعارفة بأن الجاني مختل عقليا أو أنه يمثل نفسه لا مجتمعه أو دينه.

العالم العربي والاسلامي كله ينظر الى نيوزلاندا، صفحات التواصل الاجتماعي العربي تستنكر ردة فعل الغرب الباهتة تجاه الحادث، تقارن مبدأ الكيل بمكيالين اذا تعلق الأمر بهوية الإرهابي. تطالب بتهكم وسخرية الوقفة الاحتجاجية لحكام العالم ضد الإرهاب مثل ما حدث وقت الهجوم على باريس. 

الموقف بشكل عام يمثل حرجا على الغرب، وبشكل خاص على حكومة نيوزلاندا وشعبها. إنها أكبر ازمة تمر بها البلاد في عصرها الحديث. وهو ما عبرت عنه رئيسة وزراء نيوزيلندا، جاسيندا أردرن، بقولها "كان هذا أحد أحلك الأيام في بلادنا". 

لكن كان لتلك السيدة الإنسانة قبل كونها سياسية رأي آخر وبحكمة سياسية لم نر لها مثيلا في الآونة الأخيرة خرجت سيدة نيوزلاندا الأولى بمجموعة من الإجراءات تواجه أكبر أزمة في تاريخ وسمعة بلادها.

ذهبت السيدة مباشرة عقب الحادث تطمئن على أهالي الضحايا أولاً ثم بعدها الحديث للرأي العام والذي بدأته بحكمة بتحية المسلمين "السلام عليكم" ملامسة بذلك مشاعر أكثر من مليار ونصف المليار مسلم حول العالم.

وصفت منفذ المذبحة بكلمات لا واضحة وصريحة على عكس ما كان الجميع يتوقع من كل الصحف في الغرب وفي بلادها وقالت إنه لا يمكن وصفه الا أنه إرهابي و مجرم و متطرف. بل إنها رفضت ذكر اسمه في خطابها تقليلا منه وحتى لا يحقق هدفه بالشهرة. على النقيض ذكرت أسماء الضحايا بدلا منه.

انتقت السيدة الفاظها وكلماتها بشكل دقيق خاصة حين اختارت وصف أهالي الضحايا ب"نحن وليس هم".

استمرت بسحر بيانها تخاطب القلوب قبل العقول فرفضت ذكر كلمة "تعويض" في خطابها مراعاة لشعور أهالي الضحايا وقالت إنه لا شيء يمكن أن يعوض نيوزلاندا بأكملها عما فقدته بالأمس. كما أعلنت حالة الحداد في الدولة وارتدت اللون الأسود منذ الحادث وكذلك الحجاب في أكثر من مناسبة. لم تكتف المرأة بهذا بل أمرت برفع الأذان لأول مرة في القنوات الرسمية للدولة والبرلمان. واصلت حكمتها في الادارة والسياسة باظهار الوجه الحسن لبلادها ولشعبها حين دعتهم للنزول لصلاة الجمعة في نفس مسجد المذبحة ونزلت معهم بزيها الأسود وحجابها.

بدأت حوارها بحديث للنبي صلى الله عليه وسلم "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى". لتؤكد به على الوحدة الوطنية لبلدها ومعنى المواطنة.

لم تقف دور المدافع عن بلادها أو دور المتهم في دينها. لم نسمع منها ولا من شعبها عبارات "المسيحية بريئة من الحادث وهي دين تسامح" مثل ما يُفعل في بلاد الشرق مع كل حادث ارهابي ينسب للإسلام فقد قررت بحنكتها السياسية التعامل بمبدأ "نحن لا هم ، مصيبتنا وليست مصيبتهم".

لقد حولت هذه المحنكة محنة بلادها الى منحة، لم تضعف أو تتوتر أو تلقي باللوم على الارهاب الذي يدمر ويهلك الاخضر واليابس، بل سارعت لاظهار ان هذا ليس الا طفرة سوداء في ليلة ظلماء لن تحدث ثانية في بلادها.

لقد غيرت هذه الشابة صاحبة ال ٣٨ عاما بشجاعتها وحكمتها نظرة العالم لبلدها من شعب كاد أن يوصم للأبد بأنه عنصري ومتطرف إلى شعب متحضر يُضرب به المثل في التسامح والاندماج والتضامن والمواطنة الحقيقية! 
وبالفعل كردود أفعال لموقفها فقد أشادت معظم صفحات التواصل الاجتماعي والصحف العربية والغربية بموقف نيوزلاندا. وظهرت صورة رئيسة الوزراء النيوزلاندية على أعلى برج في العالم، برج خليفة بدبي، مع كلمة شكر من حاكم دبي الشيخ محمد من راشد. ومؤخرًا سُمعت بعض الدعوات لمنحها جائزة نوبل للسلام.

فن الإدارة بشكل عام ليس بالسهل اليسير، وخاصة في مجال السياسة فالإدارة فيه أشد صعوبة، تخلو في أوقات كثيرة من الأخلاقيات تحت ما يسمى، كذبا، أحيانا "المصلحة العامة". 

لقد فوتت السيدة الحكيمة بحسن إدارتها وبانسانيتها الفرصة على أعداء وطنها من خفض تصنيف دولتها وخرجت بشعبها ودولتها سالمين من أكبر أزمة انسانية وسياسية. هناك اناس يصرون على خلق المحن، لكن نيوزيلاندا علمت العالم كله كيف يكون الخروج من المحنة الى المنحة ..... فليتنا نتعلم ونتكاتف من أجل وطننا العزيز.