سليم صفي الدين يكتب: التنوير بين العقل والشكل

ركن القراء

سليم صفي الدين
سليم صفي الدين


التنوير Enlightenment هو حركة فكرية قائمة على الاستدلالات المنطقية والعقلية، قامت في أوروبا خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، وشملت كل مناحي الحياة العلمية والسياسية والاجتماعية والدينية والفلسفية، وقد عرض لها الفيلسوف الألماني إمانويل كانط في مقال حمل عنوان "ما هو التنوير؟"، وعرفه على النحو التالي: هو تحرر الفرد من الوصاية، والتي تعني عجز الفرد عن اللجوء إلى التفكير مستخدمًا عقله، دون الاعتماد على آخر –أكتفي بهذا الجزء- وهو ما يعني أن التنوير قضية فلسفية من الأساس، تتجلى ملامحها في وقتنا الحالي في حالة من تصارع الأفكار الجديدة الحديثة المتطورة مع ما هو قديم، وعليه يُدحَض القديم بما تم تقديمه من أفكار جديدة.

إلا أن قضية التنوير باتت مختصرة على الدين فقط، ولا أعرف مَن صاحب المصلحة بالتحديد في تقزيم القضية على هذا النحو، بل وانحصرت على الإسلام وحده، وانغلقت أكثر لتصبح مجرد نقل لما في كتب التراث وآراء الأئمة السابقين "والسخرية منها"! وفي هذا الشق حدِّث ولا حرج، فقد أصبح الكل مفكرين وكُتّابًا وباحثين وتنويريين، لمجرد أنهم جاءوا برأي لـ"ابن تيمة" مثلاً وأبدوا رأيهم فيه! وإن قلنا إن مناقشة أفكار الماضي ونقدها أمر هام، فيجب أن يتوازى مع تلك المناقشات النقدية طرح جديد ومفاهيم متطورة تقدم بديلاً لما يتم رفضه مما هو قديم، فقد عرف الفيلسوف الفرنسي "لوك فيري" الفلسفة الغربية الحديثة بأنها محاولة لإعادة بناء المفاهيم الكبرى للمسيحية، ومن هنا نفهم سر التحول الضخم الذي حدث في مسار المسيحية كديانة انتشرت بهدم معابد اليهود وقتلهم والتمثيل بجثثهم، إلى "الله محبة"، ثم نوسع إطار النقاش والطرح مما هو ديني إلى ما هو اجتماعي وسياسي وعلمي وفلسفي، فلا يمكن اختزال قضية التنوير في نقد التراث الإسلامي، ونترك الساحة السياسية والاجتماعية خاوية على عروشها، ونتعجب في الأخير، لماذا لم يحدث أي تقدم؟

الإشكالية لم تعد في هذا فقط، بل لقد أصبح التنوير شكلاً من أشكال التديّن، والتدين في أصله دحض للدين، فالدين أمر شخصي يخص كل إنسان على حدة، وهو أمر روحي سري جامع بين العابد والمعبود، غير أن التدين هو حالة انتقال من السرية إلى العلنية بالاعتماد على المظهر كأساس للدين، والطقوس الظاهرة كأساس للإيمان، كذلك أصبح التنوير بين من أطلقوا على أنفسهم مفكرين أو تنويريين جدد، فأصبحت المرأة الحرة هي التي لا ترتدي الحجاب، وقُرِنَ التخلف بكل المحجبات. صدمت من عبارة كتبتها إحدى اللواتي "يفكرن" تقول إنها لا تعترف بوجود مبدعة محجبة، وإن المحجبات محدودات الفكر والرؤية! ذكرتني هذه العبارة العنصرية البلهاء بعبارة الإسلاميين "ينتهي الغلاء عندما تتحجب النساء"، كذلك ينتهي التخلف عندما تخلع المرأة الحجاب، لا فرق بين الجملتين، ولا أعرف متى يدرك هؤلاء أن هذا العبث الفكري لن ينتهي إلا عندما يُترك كل إنسان بحريته؛ يختار دينه ومظهره بإرادة حرة، ويعبر عن أفكاره بحرية مطلقة دون خوف أو تهديد، سواء اجتماعي أو قانوني.

تبقى المؤسسات الدينية عائقًا أمام مسار الحداثة والتطوير، فبعد أعوام كثيرة من طرح دعوة تطوير الخطاب الديني من جانب مؤسسة الرئاسة، لم يحدث من الأزهر غير العناد والتعنت مواجهًا محاولة غير اعتيادية نحو التعايش السلمي من خلال تغيير في منهجية الخطاب الإسلامي الأشعري، بمزيد من التطرف في الخطاب المرفوض ذاته.

ومن حيث القانون، فمؤسسات الدولة لها دور كبير في قضية التنوير، لست من المؤمنين بأن التنوير والإصلاح يأتي من أعلى إلى أسفل، ولا أؤمن كذلك بالعكس، إنما أعرف أهمية التوازي والمشاركة، فكان أولى بمؤسسات الدولة إلغاء تهمة ازدراء الأديان من القانون المصري، في الوقت الذي دعت فيه مؤسسة الرئاسة إلى فكرة التجديد، حتى يتضح لأصحاب نية الدولة تحقيق التوازن بين قوة المؤسسات الدينية الممثلة في التيار السلفي والأزهري والكنسي وبينهم، وهنا ستكون الدولة على حياد، ولن يستطيع أحد اتهامها بالميل يمينًا أو يسارًا.

القول بأن التنوير "مظهر" عبث، واختزاله في قضية التراث بلاهة، والاستمرار في وصم كل ما هو قديم بالتخلف تخلف في حد ذاته. 
التنوير قضية فلسفية من الأساس، قائمة على دحض القديم بتقديم بديل له مواكب للعصر الحديث. من يستطيع القول بأن ابن رشد قديم، أو أننا لا حاجة لنا بابن عربي أو حتى الغزالي صاحب "تهافت الفلاسفة".

التنوير "أن تقرأ ولا تجعل أحدًا يقرأ لك" كما قال نصر حامد أبو زيد، أن تفكر ولا تسمح لأحد أن يوجهك، أن تعرف أنك أنت المحور والأساس، كما قال كانط: "أن تتحرر من الوصاية"، أن تكون عنصرًا فاعلاً لا مفعولاً بك.. أن تكون أنت!