خطيب الحرم المكي: صاحب الهمة العالية يصنع الفرص ولا ينتظرها

السعودية

بوابة الفجر


أوصى إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور ماهر بن حمد المعيقلي، المسلمين بتقواه سبحانه جل في علاه؛ فهي العز والفوز والنجاة، ما خاب من استمسك بها، وما أفلح من تركها؛ مستشهداً بقوله تعالى: {فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون}.

وقال في خطبة الجمعة التي ألقاها اليوم: "خلق الله تعالى بني آدم، وحثهم على عمارة الأرض وإصلاحها، {هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها}، وهذه العمارة، تشمل كل ما فيه نفع وفائدة، للعباد والبلاد، من الزراعة والصناعة، والتشييد والبناء، والأخذ بأسباب التحصن والقوة؛ فقد هيأ سبحانه لعباده ما يلزم لعمارة أرضه، وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة، وسخّر لهم فرص الفوز والفلاح؛ فالموفَّق مَن يبادر إليها، ويجدّ ويجتهد في اغتنامها؛ فينفع نفسه ويعمر وطنه ويُعلي شأن أمته.

وأوضح أن الفرصة قد تكون قُربة وطاعة، أو عمل خير يتعدى نفعه إلى غيره، أو مشاركة في بناء وطن وتنمية، وقد تكون منصباً رفيعاً، أو جاهاً كريماً، يسخّره صاحبه لنفع بلاده ومجتمعه، والإسلام وأهله.

وبيّن أن صاحب الهمة العالية مَن يصنع لنفسه الفرص، ولا ينتظرها تطرق بابه؛ بل يبادر في تحصيلها؛ سواء كان ذلك في أمر الدنيا أو الآخرة، وفي مصنف ابن أبي شيبة، قال ابن مسعود رضي الله عنه: "إني لأمقت الرجل أن أراه فارغاً، ليس في شيء من عمل الدنيا ولا عمل الآخرة".

وقال "المعيقلي": لقد أثنى الله تعالى على أنبيائه ورسله فقال: {إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين}. أي: يبادرون إلى الخيرات، ولا يتركون فضيلة يقدرون عليها، إلا انتهزوا الفرصة فيها فهذا نبي الله موسى عليه السلام، لما اطمئن قلبه بكلام رب الأرباب، وأن الذي يخاطبه هو مسبب الأسباب، اغتنم عليه السلام الفرصة، قال تعالى: {قال رب اشرح لي صدري، ويسر لي أمري، واحلل عقدةً من لساني، يفقهوا قولي، واجعل لي وزيراً من أهلي، هارون أخي، اشدد به أزري، وأشركه في أمري}؛ فاستجاب له ربه في قوله جل وعلا: {قال قد أوتيت سؤلك يا موسى}.

وتناول قصة النبي زكريا عليه السلام مع السيدة مريم عليها السلام؛ إذ دخل عليها وهي منقطعة للعبادة، لا كسب لها ولا تجارة، قال سبحانه وتعالى: {كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب}؛ فلما رأى آثار فضل الله ورحمته؛ اغتنم عليه السلام الفرصة، فدعا الله تعالى بأن يرزقه الولد الصالح، فالذي رزق مريم بغير سبب، قادر على أن يهب للشيخ الكبير الولد، وجاء ذلك في قوله تعالى: {هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذريةً طيبةً إنك سميع الدعاء، فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقاً بكلمة من الله وسيداً وحصوراً ونبياً من الصالحين}.

وتطرّق لموقف ثالث وصفه بالعجيب، لنبي الله سليمان عليه السلام، لما ألهته الخيل الجياد، عن ذكره لربه وصلاة المساء؛ ندم على ما مضى منه، وتقرب إلى الله تعالى بما ألهاه عن ذكره، فأمر عليه السلام بعقرها، والتصدق بلحمها، واغتنم فرصة الندم والتوبة ونفحات المغفرة والرحمة، فاستغفر ربه في قوله تعالى: {قال رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب}، فجاءت الاستجابة من الله العلي القدير، وعوّضه سبحانه خيراً مما تركه.

واستشهد بقول الله تعالى: {فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاءً حيث أصاب، والشياطين كل بناء وغواص، وآخرين مقرنين في الأصفاد، هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب، وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب}.

وأردف "المعيقلي": أما نبينا صلوات ربي وسلامه عليه؛ فقد كان مثالاً يُحتذى، في اغتنام الفرص، وحين قَدِمَ إلى المدينة، وأتيحت له الفرصة، بادَرَ بتقسيم الأعمال، ومكّن أصحاب المواهب، وهيّأ لهم الفرص؛ فبلال لرفع الأذان، وخالد بن الوليد لنصرة الدين بالسنان، وأما نصرة الدين بالشعر والبيان فكان النصيب الأكبر فيه لحسان رضي الله عنهم جميعاً وأرضاهم.. ومر صلى الله عليه وسلم يوماً بسوق المدينة، والناس مشغولون ببيعهم وشرائهم؛ فأراد أن يذكّرهم بقيمة الدنيا وألا تلهيهم تجارتهم عن تجارة الآخرة؛ فمر بجدي أسكّ ميت أي صغير الأذنين؛ فاغتنم صلى الله عليه وسلم الفرصة، فتناوله فأخذ بأذنه، ورفع صوته يزاود على بيعه، فقال: (أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟ فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟ قال: أتحبون أنه لكم؟ قالوا: والله لو كان حياً كان عيباً فيه لأنه أسك؛ فكيف وهو ميت؟ فقال: فو الله للدنيا أهون على الله، من هذا عليكم)، رواه مسلم.. وفي مسند الإمام أحمد، لما صعد ابن مسعود رضي الله عنه على شجرة، يجتني سواكاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكان دقيق الساقين، فجعلت الريح تكفؤه؛ فضحك القوم منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مم تضحكون؟) قالوا: يا نبي الله، من دقة ساقيه، فقال: والذي نفسي بيده، لهما أثقل في الميزان من أحد)، فاغتنم صلى الله عليه وسلم الفرصة ليبين للأمة أن الناس يوم القيامة لا يتفاضلون بأشكالهم وأحجامهم؛ وإنما بصلاح قلوبهم وأعمالهم، فالله جل جلاله، لا ينظر إلى الصور والألوان والأشكال، ولكن ينظر إلى القلوب والأعمال، وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة، لا يزن عند الله جناح بعوضة، وقال: اقرءوا: {فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً}).

ولفت الانتباه إلى بعض المواقف التي ينبغي الحرص على اغتنام الفرص فيها، منها ما جاء في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بأن سبعين ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، فقام عكاشة بن محصن رضي الله عنه فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم، قال: (اللهم اجعله منهم)، ثم قام رجل من الأنصار، فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: (سبقك بها عكاشة).

وقال "المعيقلي": تأمل أخي المسلم، كيف بادر عكاشة رضي الله عنه وأرضاه، واغتنم هذه الفرصة؛ ففي لحظة واحدة فاز بدخول الجنة من غير حساب ولا عذاب.

وبيّن أن كل فرصة في الخير مغنم، مهما صغر حجمها وقلّ وزنها، فاتقوا النار ولو بشق تمرة؛ فمن لم يجد، فبكلمة طيبة، ولا تحقرن من المعروف شيئاً، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق، وفي صحيح مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة، في شجرة قطعها من ظهر الطريق، كانت تؤذي الناس).

وأكد أن هناك فرصاً لا يمكن تعويضها؛ فمن هذه الفرص العظيمة وجود الوالدين فالوالد أوسط أبواب الجنة؛ فإن شئت فحافظ على الباب أو ضيّع، وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رَغِم أنف ثم رغم أنف ثم رغم أنف، قيل: مَن يا رسول الله؟ قال: من أدرك أبويه عند الكبر، أحدهما أو كليهما، فلم يدخل الجنة).

وأوضح أن وجود الإنسان في الحياة، هو أعظم فرصة؛ فإن كان عمل صالحاً ازداد، وإن كان غير ذلك تاب وعاد، وفي مستدرك الحاكم بسند صحيح، قال صلى الله عليه وسلم: (اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك)، وكلما كان المرء جاداً في حياته، مترفعاً عن نزواته وشهواته؛ اغتنم الفرصة وتقدم على غيره، {والسابقون السابقون، أولئك المقربون، في جنات النعيم}.

وألمح إلى أن من فضل الله تعالى علينا، أن جعل الفرص قائمة حتى آخر ساعة؛ ففي مسند الإمام أحمد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن قامت الساعة وبِيَد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليفعل).

ودعا إمام وخطيب المسجد الحرام إلى اغتنام الفرصة قبل فواتها، وتذكّر أن الفرص نعمة، والنعم إذا ذهبت ربما لا ترجع، قال ابن القيم رحمه الله: الله سبحانه يعاقب من فتح له باب من الخير فلم ينتهزه، بأن يحول بين قلبه وإرادته، فلا يمكنه بعد من إرادته، عقوبةً له". {واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون}؛ فمن آثر عجزه وكسله، وفوّت الفرص على نفسه، ندم في وقت لا ينفعه فيه الندم، {يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى، يقول يا ليتني قدمت لحياتي}.