المؤمن للمؤمنِ كالبُنْيَانِ يشدُّ بعضُه بَعْضا

إسلاميات

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية


التعاون هو مساعدة الناس بعضهم بعضاً في الحاجات وفعل الخيرات, وهو ضرورة من ضروريات الحياة، وفطرة فطر الله عز وجل خَلْقَه عليها، ومصلحة النفس والناس والمجتمع والأمة لا تتم إلا بالتعاون على البر والتقوى، قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}(المائدة: 2). قال القرطبي: "وهو أمرٌ لجميع الخَلْق بالتعاون على البر والتقوى، أي ليُعِن بعضكم بعضاً، وتحاثوا على ما أمر الله تعالى واعملوا به، وانتهوا عما نهى الله عنه وامتنعوا منه". وقال السعدي: "الإعانة هي: الإتيان بكل خصلة من خصال الخير المأمور بفعلها، والامتناع عن كل خصلة من خصال الشر المأمور بتركها، فإن العبد مأمور بفعلها بنفسه وبمعاونة غيره عليها من إخوانه المسلمين بكل قول يبعث عليها وبكل فعل كذلك".

ولما كان التعاون على الخير والبر والتقوى واجباً شرعياً وضرورة اجتماعية، فقد اهتم النبي صلى الله عليه وسلم ببناء الفرد المسلم وتربيته عليه، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرَّج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة) رواه البخاري. وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المؤمن لِلْمؤْمن كالبُنْيان يَشُدُّ بَعْضُه بَعْضا، ثُمَّ شَبّك بين أَصابعه) رواه البخاري. قال ابن بطال في شرح الحديث: "تعاون المؤمنين بعضهم بعضاً في أمور الدنيا والآخرة مندوب إليه بهذا الحديث، وذلك من مكارم الأخلاق". وقال ابن حجر: "المعاونة في أمور الآخرة، وكذا في الأمور المباحة من الدنيا مندوب إليها". وقال ابن عثيمين: "والأمة الإسلامية أمة واحدة، يجب أن يعتقد كل إنسان أنه لبنة في سور قصر مع إخوانه المسلمين لقول النبي صلى الله عليه وسلم:المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا".
ومن وصايا النبي صلى الله عليه وسلم على التعاون بين المسلم وغيره من إخوانه وأفراد مجتمعه، قوله صلى الله عليه وسلم: (كل سُلامَى (عظم في الجسم) عليه صدقة، كل يوم يعين الرجل في دابته يحامله عليها أو يرفع عليها متاعه صدقة) رواه البخاري. وقال صلى الله عليه وسلم: (على كل مسلمٍ صدقة، فقالوا: يا نبي الله! فمن لم يجد؟ قال: يعمل بيده فينفع نفسه ويتصدق، قالوا: فإن لم يجد؟ قال: يعين ذا الحاجة الملهوف) رواه البخاري. بل وأوصانا النبي صلى الله عليه وسلم بإعانة العبيد أو من استئجرناهم وكلفناهم بعمل، فقال صلى الله عليه وسلم: (إخوانكم خولكم (الخدم)، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم) رواه البخاري.

ونبينا صلى الله عليه وسلم مع علو قدره ومنزلته، كان المثل الأعلى في التعاون, سواء كان في داخل بيته مع أهله، أو مع أصحابه ومجتمعه الذي يعيش فيه, والسيرة النبوية زاخرة بالأمثلة الدالة على ذلك.

التعاون والمشاركة النبوية مع أهله في بيته : 

عن الأسود رضي الله عنه قال: سألتُ عائشة رضي الله عنها ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته؟ قالت: (كان يكون في مهنة أهله ـ تعني في خدمة أهله ـ، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة)، وعن عروة قال: (قلت لعائشة ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته؟ قالت: يخيط ثوبه ويخصف نعله ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم) رواه أحمد. وإذا كان التعاون في أمور الدنيا بين الزوج وزوجته مطلوباً ومندوباً إليه، فكذلك التعاون بينهما على أمور الآخرة مطلوب ومندوب إليه، بل هو أحْرى وأَوْلى، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (رحِم الله رجلاً قام من الليل فصلى فأيقظ امرأته فصلت، فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأةً قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها فصلّى، فإن أبى نضحت في وجهه الماء) رواه أحمد. 

تعاون النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه ومجتمعه :

ـ الهجرة النبوية: هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة ظهر فيها التعاون بصورة واضحة، فأبو بكر الصديق رضي الله عنه اختاره النبي صلى الله عليه وسلم صاحباً ورفيقًا له في الهجرة، وعلى بن أبى طالب رضي الله عنه أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخلّف عن السفر ليؤدي عنه ودائع الناس وأماناتهم، وأن يلبس بردته ويبيت في فراشه تلك الليلة، حتى يظن المشركون الواقفون على باب بيته والذين يريدون قتله أنه صلى الله عليه وسلم لا يزال نائماً، في الوقت الذي يكون فيه هو وصاحبه قد خرجا من مكة في طريقهما إلى المدينة. وعبد الله بن أريقط: استعان به النبي صلى الله عليه وسلم ليكون دليلاً له في سيره إلى المدينة، وكان خبيراً في مسالك الطرق أميناً لا يفشى سرّاً. وأسماء وعائشة رضي الله عنهما كان دورهما أن يجهزا الطعام الذي سيأخذه المهاجران في رحلتهما إلى المدينة، وعبد الله بن أبى بكر الصديق: كان دوره أن يأتى بالأخبار التي يتداولها أهل مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأبى بكر ليلاً، وهما في غار ثور. وعامر بن فهيرة: كان دوره أن يمحو بأغنامه آثار قدم عبد الله بن أبى بكر وهو في طريقه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه، حتى لا يستدل على مكانهما أحد.. ومن ثم كان هذا التعاون ـ بعد فضل الله تعالى وتوفيقه وحفظه ـ سبباً من أسباب نجاح الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة المنورة .

ـ بناء المسجد: أول أمر فعله النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة هو إقامة المسجد النبوي، ففي المكان الذي بركت فيه ناقته أمر ببناء المسجد، وساهم صلوات الله وسلامه عليه وتعاون مع أصحابه في بنائه بنفسه، فكان ينقل اللبن والحجارة ويقول: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة، حتى اكتمل البناء ـ  وكان عمره صلى الله عليه وسلم حينئذ ثلاثاً وخمسين سنة ـ، حتى قال أصحابه: لئِنْ قَعَدْنا والنبي يعملُ   لَذَاكَ مِنَّا العمل المضلّلُ
   
ـ في غزوة الأحزاب: شارك النبي صلى الله عليه وسلم وتعاون مع أصحابه ـ وهو في السابعة والخمسين من عمره ـ في حفر الخندق، وعانى مثلهم أثناء الحفر من ألم التعب والجوع، يقول البراء بن عازب رضي الله عنه: "رأيته صلى الله عليه وسلم ينقل تراب الخندق حتى وارى عني الغبار جلدة بطنه"، بل وصل به الأمر إلى أن ربط حجراً على بطنه الشريف من شدة الجوع، وحين وجد ما يسد رمقه بعد جوع استمر ثلاثة أيام، لم يستأثر بذلك دونهم، بل دعاهم إليه وشاركهم فيه، وكان يقوم برفع معنوياتهم، ويبث الأمل في نفوسهم، فأعطى القدوة الحسنة ـ لأصحابه والمسلمين من بعدهم على اختلاف مستوياتهم ـ في التعاون مع أصحابه، ومشاركته لهم في آلامهم وآمالهم.
 
فائدة :

ينبغي الانتباه والحذر من عدم الوقوع في التعاون والمساعدة على باطل أو فِعْلٍ مُحَرَّم، فقد قال الله تعالى: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}(المائدة:2). قال ابن كثير: "يأمر تعالى عباده المؤمنين بالمعاونة على فعل الخيرات وهو البر، وترك المنكرات، وينهاهم عن التناصر على الباطل، والتعاون على المآثم والمحارم، ففعل الخيرات هو البر نتعاون فيه، وترك المنكرات هو التقوى نتعاون عليه كذلك، ولا نتعاون على إثم كالباطل، ولا على محرم، لأن المعاون فيه شريك في الإثم". وضرب لنا النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً لمن يعاون أحداً على غير الحق، فقال: (مثل الذي يعين قومه على غير الحق كمثلٍ بَعِيرٍ تردَّى (سقط من مكان عال) في بئرٍ فهو يُنزَعُ منها بِذَنَبِه) رواه أبو داود وصححه الألباني. قال المناوي: "قال بعضهم: معناه أنه قد وقع في الإثم وهلك كالبعير إذا تردَّى في بئر فصار ينزع بِذَنَبِه ولا يقدر على الخلاص".

لا يتم أمر العباد فيما بينهم، ولا تنتظم مصالحهم، ولا يهابهم عدوهم، إلا بالتضامن والتعاون فيما بينهم على البر والتقوى، والتكافل والتناصر، والتناصح والتواصي بالحق والصبر، قال الماوردي: "ندب الله سبحانه إلى التعاون بالبر وقرنه بالتقوى له، لأن في التقوى رضا الله تعالى، وفي البر رضا الناس، ومن جمع بين رضا الله تعالى ورضا الناس فقد تمت سعادته وعمت نعمته". وقد كان التعاون على البر والتقوى، والخير والمعروف، من هدي وخلق نبينا صلى الله عليه وسلم الذي دعانا إليه، وأوصانا به، وطبقه عمليّاً مع أهله وأصحابه ومجتمعه، وهو القائل صلى الله عليه وسلم: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا).