كل هذا ليس حقيقي يا أمي.. 'حادث المنيا الإرهابي' مازال لدينا عُمر نعيشه (صور)

أخبار مصر

بوابة الفجر




لكم في الذّكرى شجوني، من أجلها تدمع عيوني، فإذا طال الزّمان ولم تروني، فابحثوا عنّي في من أحبّوني، وإذا زاد الفراق ولم تروني، فهذا كلامي فيه تذكّروني.



هنا فقط.. الزغاريد تتعالى والهتاف يكسو السماء.. للوهلة الأولى تعتقد أنه زفاف أحد أكابر المدينة، حشود تملأ جنبات الشوارع، ترتدي الأبيض، دموع الفرحة تُغرق أعين الأمهات، وشباب يحملون نعوش بيضاء كما لو كانت "كوشة الفرح"، يطيرون بها إلى بيتها الأخير.



تُعتبر الدموع من أصدق المشاعر التي تصف إحساس الإنسان، ولكن حينما يطغى الكبرياء تتحول الدموع لابتسامة، فـ ليس سهلًا على قلوب ارتبطت بالحب أن تفترق، خاصةً لو كان فراقًا بلا عودة إلى هذا اللقاء، على الأقل على هذه الأرض.



"حادث المنيا الإرهابي" شئ لا يختلف عليه شخصين، هذا فاق حدود اللاإنسانية واللادين، هنا فقط يتجرد الإرهابيون من كل معاني المشاعر التي وهبها الله للإنسان، لا يعلمون أن الإنسانية خُلقت قبل الدين وقبل كل شئ.



"ظلّ الضرب مُستمرًا، لم يُفرّق بين أحدٍ، كان عدد النساء نحو 12، والناس كلها كانت نائمة في الأرض في الأسفل، وأغلب الإصابات جاءت للصفوف الخلفية، أختي مريم أُصيبت في قدمها، وأحلام قريبتي أُصيبت بطلقات في الضهر"، هذا ما يتذكره بيشاي، أحد الناجين من عاصفة الموت التي ضربتهم للحظات لن تُنسى.



لحظات تفطر القلوب
المشهد هنا مُرعب، كل شئ مُهشم تمامًا، زجاج متناثر على الأرض، ورائحة الموت والخوف في كل مكان، هنا فقط، تتعلق أرواح ضحايا الإرهاب، تنتظر من يعيد لها حقًا سلبته منهم الدنيا بسبب شبح لعين.



الخوف هنا ليس إحساسًا عاديًا، يخلع القلوب من مكانها كلما نبضت، عندما يزداد الصراخ ثم يصمت الجميع، لا يُسمع سوى تلك النبضات، التي يصبح صوتها أشد من صوت ناقوس الحرب.

شعورٌ لا يمكن وصفه، فقط هنا عند الفراق، أصبحت لعينينا الكلام، فققرأ من أحبنا سوادها، وجعلنا وداعنا لوحةً من المشاعر، يستميت الفنّانون لرسمها ولم يستطيعوا، فهذا آخر ما سيسجّله الزّمن في رصيدنا.



 كل هذا ليس حقيقي يا أمي
هرولت من منزلها بعد وصول خبر الحادث لها، توجهت لكنيسة أولاد غريب، بناحية قرية الكوامل بحري التابعة لمركز سوهاج، وفي انتظارها المئات من المواطنين والقساوسة والكهنة والآباء.



لم تدمع عيناها كأقرانها من ذوي المفقودين، ظهرت للجميع بشخصية البطلة التي لم ينحنِ ظهرها، حاملة رسالة من الله بالثبات وقوة التحمل.

إنها الأم، القلب المفطور على أبنائه ضحايا الإرهاب الأسود، تلملم خلفها ذيالات الألم والكسرة والحسرة، لا تعلم ما ينتظرها في الغد، تتعجب من قوة تحمل قلبها، خائفة من أن ينفطر عندما تستيقظ من الصدمة!



"عزاء مين ده، فيه إيه مين مات؟"، تبدأ في البحث عن نجلها، يتألم كل جزء فيها، تدخل بخطوات مرتعشة، يعلم عقلها ماذا حدث، ولكن يرفض قلبها أن يصدق ذلك، وتتمنى لو أنه خبر كاذب، تنتظر أن يقول لها أحدهم، نجلك بخير وكل هذا ليس حقيقي يا أمي.



 مازال لدينا عمرٌ نعيشه
أنقذ جميع ركاب الحافلة الـ 35 ما بين رجل وشاب وسيدة وفتاة وطفل، بخطوات ثابتة توجه إلى الكنيسة ذاتها، يحمل في عقله آلاف الأفكار المتضاربة، وسط رأس مشتت، يتألم تارة، ويشعر بالرعب تارة أخرى، وأحيانًا يشعر بالراحة أنه استطاع أن يكون يد الله في الأرض ووسيلته، ويُنقذ ما أراد الله أن يكون له حياةً أخرى.



إنه "سامح نبيل" سائق أتوبيس سوهاج الذي نجا بركابه من الحادث، روى لحظات من الرعب والتوجس، عاشها وكأنه كابوس مرير، دقائق مرت كما لو كانت ألف عام، اتسعت فيها حدقة عينه، وتضاربت دقات قلبه كما لو كانت في سباق الخيل.



"مكنتش مصدق اللي حصل وكأنه فيلم أكشن، مازال لدينا عُمر نعيشه، وتوفيق من الله أنني أحسنت بسببه التصرف".. بهذه الكلمات بدأ السائق حديثه، راويًا أحداث الرعب.

واستكمل قائلًا: "دخلنا الدير يوم الجمعة الماضي، في نحو الساعة الخامسة فجرًا، وقمنا بزيارة الدير، وخرجنا من الدير في طريقنا للعودة نحو الساعة 12 ظهرًا، وعند منتصف المدق الجبلي المؤدي إلى الدير، فوجئنا بسيارة من خلفي تحاول أن تسبقني ويشير مستقليها لي أن أقلل السرعة، فاستجبت لهم على أنهم ضمن قوات تأمين زوار الدير، خاصة أنهم يرتدون ملابس تشبه ملابس الميري".



ويغمض "السائق المسكين" عينيه، وكأنه في حلم، يخرج منها الخوف وهي مغمضة أيضًا، ويتابع بصوت مرتفع: "وإذ بتلك السيارة تسير بمحاذاة الأتوبيس، ويُطلق مستقليها الرصاص صوب الأتوبيس، ويرددون قف، عندها علمت أنهم إرهابيين، وليس ضمن قوات التأمين".



واستكمل: "كلما تمكنت من زيادة سرعة الأتوبيس يزداد هؤلاء الإرهابيين من زيادة عدد طلقات الرصاص، حتى اخترقت مقدمة الأتوبيس نحو 28 طلقة، ما جعل زجاج الأتوبيس يتهشم، مما دفعني أن أنزل من على كرسي القيادة الذي أجلس عليه لأجلس في أرضية السيارة، وأضغط على أكسرتير السرعة بكل قوة حتى أتمكن من الفرار، واستطعت أن أقود السيارة في تلك الأحداث دون أن تنقلب مني على جانب الطريق بسبب السرعة الزائدة واختلال عجلة القيادة في يدي بعض الشئ، واستطعت أن أتعامل مع الحادث بكل ثبات وسرعة بديهة، لأُنقذ حياة من معي من خطر هؤلاء الإرهاب".



 إلى اللقاء في دار الخُلد

سكبت عليهم دموع الفراق.. وسألت جفني أتكفي الدموع

وسرت وحيدًا غريب الديار.. وساروا جميعًا وسار الجموع

رفاقي لماذا سيُطوي الكتاب.. وما ذنب قلبي لكي لا يضيع

فؤادي سقيم فهل من دواء.. ويداوي فراق الفؤاد الوديع

كيف أرنوا لعيش مرير.. رحلتم صحابي فكيف الرجوع

ولولا الحياء لصاح الفؤاد.. سلبتم كياني كطفل رضيع