"كنا رجالة مبتخافش الموت".. ذكريات نصر أكتوبر من دفتر حياة مراكبي بطل

تقارير وحوارات

بوابة الفجر


صدفة غنيم - دنيا عادل - ريشة: عمرو عبد العاطي
بينما تسرب هواء الليل من بين ثنايا جلبابه الرمادي ملامسًا جسده النحيل، ارتجف مطبقًا يديه أمامه، ليطل من مركبه على ذكرياته وقتما شارك في حرب أكتوبر 1973، فكان محمد عبد العال حينها في العشرينات من عمره.

يجول الرجل السبعيني بعينيه يمينًا ويسارًا بين الأضواء المتلألئة من المراكب المتحركة في تناغم بمياه النيل، ويستمتع بتأمل انعاكسها على النيل مع غروب الشمس، ليرسم بها على المياه تلك الصورة التي لم تفارق ذاكرته منذ أكثر من خمسة وأربعون عامًا، وكأنما يشاهد فيلمًا سينمائيًا يجسد بطولاته مع زملائه في هذه الفترة.

"كنا رجالة مبنخافش الموت"، هكذا وصف ابن المنصورة الحاج محمد عبدالعال، هذه اللحظات الصعبة والفاصلة في تاريخ مصر، حينما كان يؤدي الخدمة بالجيش مع زملائه جنبًا إلى جنب في انتظار ساعة النصر، يحملون الذخيرة ذهابًا وإيابًا بحماس يقتل شعور الخوف والتعب بداخلهم.

يصمت "عبدالعال" للحظات ثم يعيد النظر إلى اللوحة التي رسمتها مخيلته على سطح النيل، لتبدأ عيناه في الاحمرار استعدادًا لإطلاق الدموع الحبيسة، التي يفقد السيطرة عليها كلما تذكر صديقه الشهيد الذي أصابته طلقة العدو الصهيوني في صدره من الخلف غدرًا، أثناء أدائهما للخدمة العسكرية، فما كان أمامه وقتها سوى أن يلقي بالرمال على وجهه من هول الصدمة.

ومع مرور عشرات السنين على هذه الملحمة العظيمة التي سطرها الجنود البواسل بدمائهم؛ ينسى الرجل تفاصيل خمس سنوات ونصف قضاها في الجيش، ولا تحفر ذاكرته منها سوى تلك الخمسة عشر يومًا التي شارك فيها بسلاح الطيران الجوي، لاستعادة الأراضي المصرية المنهوبة من الإسرائيليين.

"إحنا كنا متأكدين من النصر"، يردد الحاج محمد عبدالعال، هذه العبارة بنبرة تملؤها العزيمة والفخر، فبالرغم من أن الحرب تزامنت مع شهر رمضان المبارك، إلا أن مشقة الصيام مع الصمود لساعات طويلة تحت أشعة الشمس الحارقة، كانت تزيد الجنود البواسل قوة وإرادة:"إحنا مكانش الأكل بييجي على بالنا.. هناك كنا ناسيين حتى أهلنا".

وبابتسامة خفيفة يشق بها الرجل تجاعيد وجهه المليئة بخبرات الزمن؛ يتذكر زملائه من الجنود الأقباط، الذين جسدوا مواقفًا تكشف روح الوحدة والإيمان الذي كانوا يتمتعون به، فحرصهم على شعور أشقائهم المسلمين من الجنود بتعب الصيام، دفعهم لمشاركتهم هذه المشقة، فكانوا يمتنعون طوال النهار عن تناول الطعام، ويحاولون التخفي بعيدًا عن أعين الصائمين لشرب السجائر وأكواب الشاي، ثم يتقاسمون معًا وجبة الإفطار بعد المغرب، في لوحة فنية يصعب على الناظر إليها أن يفرق بين مسلم وقبطي من الجنود.