في الذكرى الثانية للحادث الآليم.. كيف قضى "مركب رشيد" على سماسرة الموت؟

تقارير وحوارات

بوابة الفجر


تدب الحياة من جديد في قرية "برج رشيد" التابعة لمحافظة البحيرة، الصيادون يرمون الشباك وينادون على بعضهم بعضًا بأصوات منغّمة، لا يكترثون بالمركب المنكوب-الذي غرق منذ عامين وهو يحمل مهاجرين غير شرعيين إلى إيطاليا، قبل أن يغادر المياه المصرية- المُنزوٍ على مرسى بالقرب من مدخل بوغاز رشيد المطل على البحر المتوسط "من وقت الحادث وهي في مكانها ماتحركتش"، عبارة رددها أحد الصيادين الذي ساعد في انتشال الجثث الغارقة، خلف محاورة مع زميلة عن تفاصيل هذا اليوم.

لا تتعدى المسافة بين المركب الذي تتفاوت أعداد من اعتلوه بين 300 إلى 600 مهاجر غير شرعي ينتمون إلى جنسيات مصر والسودان والصومال وإريتريا وسوريا، وقارب أحمد إبراهيم-اسم مستعار- سوى عدة أمتار وبالرغم من المشاهد المُفجِعة المحفورة في ذاكرته والتي لن ينساها مادام حيًا، إلا أنه يحرص على مداومة عمله مع انبلاج شعاع الفجر، فهو لا يتقن غير الصيد منذ نعومة أظافره مثل أغلب أهالي القرية "لو طلعنا من البحر نموت زي السمك"، يرتعش صوته فيما يحكي"ذكرى سودة صحينا كلنا عليها واحنا لسه هنبدأ يومنا الناس بتقول يافتاح ياعليم ودور على رزقها واحنا كنا بندور على الجثث.. ده غير الشباب اللي زي الورد اللي كانت بتعافر وتمسك في القوارب علشان مكتوب لها حياه"، يختتم عبارته شاردًا لبرهة، يقطعه مرور أحدهم.




سمع الرجل الذي على مشارف الخمسين عامًا، قبل هذا الحادث عن سفر العديد من الشباب والأطفال إلى بلاد أوروبا، وأن هناك كثير من سماسرة الهجرة غير الشرعية- لم يعرفهم بشكل شخصي- يستغلون حاجة هؤلاء البسطاء، لكنه لم يستوعب الأعداد الذي شاهدها أمامه  في حادث الواحد والعشرين من سبتمبر 2016 "كنا بنطلع الناس زي الخضار المتخزن في الثلاجات.. الناس كانت مرصوصة في المركب من تحت فوق بعض وطبيعي كانت توقع". عقب مرور ما يقرب من أسبوع على الحادث كانت ملابس وأمتعة المواطنين تَطفو على سطح الماء.

كان هذا الحادث الذي راح ضحيته 203 شخصًا،  بمَثابة الدرس لعديد من الأسر في القرية-التي طالما اشتهرت بهجرة أبنائها بطريقة غير شرعية-"بقى صعب دلوقتي تلاقي سماسرة بتسفر عن طريق البحر.. في تشديدات أمنية قوية.. ده غير أن الناس بتخاف على مصير ولادها بعد غرق المركب ده.. وخاصة إللي كانوا بيحلموا يسافروا أطفالهم هناك بقوا بيسرحهم في الغيط في مواسم مثل البلح أو بيطلعوا يسرحوا معانا واهي الحياة ماشية ومش هتوقف".




من بين الشباك المتراصة على أحد زوايا القارب، خرج علي حسين-اسم مستعار- محاولاً تمشيط شعره بيده "بقالي يومين نايم على المركب"، طيلة الليل يفكر صاحب الخمسة وعشرون ربيعًا، كيف غير هذا الحادث تفكيره في السفر إلى إيطاليا، وعدوله عن السفر بطريقة غير شرعية، مكتفيًا برزق البحر "اللي شوفناه يخلينا نرضى بما قسم الله لنا وحتى لو برزق قليل.. أنا مكنتش يومها في البحر ولا ساعدت في انتشال الغارقين لكن كنت بطلع لوشوش الاهالي اللي كنت بشوف فيها أمي وأبوية وقتها عدلت عن الفكرة دي تمامًا إلا أن جت بشكل قانوني".

كرفيقين للدرب، تشاركت شقيقتان من قرية الجزيرة الخضراء بكفر الشيخ، المجاورة لقرية برج رشيد نفس الأوجاع، عندما حاولن تلبية رغبة أطفالهم الذين لا يتجاوزا 17عامًا، في السفر إلى إيطاليا والذين لازالوا مفقدين حتى اليوم ولا يعلم ذويهم عنهم شىء"لهم عايشين ولا ميتين"، تقولها والدة أحمد وهي تنتحب لعدم استيعابها طيلة عامين اختفاء أحمد الأشقر (16 عامًا) نجلها الأكبر "فضلنا ندور شهر مابين الأحياء والأموات والمستشفيات والأقسام وبرضو ما ظهرش لا هو ولا ابن خالته.. كنا بنقول في البداية أنهم سافروا على مركب تانية لكن بعد ما شوفنا جثة صاحبهم إبراهيم اللي كان مسافر معاهم عرفنا خلاص إنهم كانوا في المركب ده"، بالرغم من تأكيد بعض الناجين لها في بداية الأمر أنهم لم يرونه هو ومحمد هلال (17 عامًا) ابن شقيقتها، إلا أنهم عقب فترة أكدوا لهم رؤيتهم معهم بنفس المركب.




عامين مروا على الأم المكلومة، وهي حاضنة مقتنيات ابنها "عندي امل هيدخلوا علينا.. مكنتش أعرف أن ده مصيره.. بس أعمل ايه الهجرة دي كانت منتشره هنا في القرية والاهالي بتتمنى عيشه كويسة لعيالها.. الظروف صعبة وابني كان عاوز يسافر إيطاليا لتحقيق أحلامه، لكن مات وماتت معاه الأحلام". تتمنى أن يعود بها الزمن إلى الخلف لمَحو هذه الفكرة من تفكيره. تتذكر أخر يوم رأت فيه نجلها، قبل الاتصال الهاتفي الذي جاءهم في الثانية عشر مساءً من يوم التاسع عشر من سبتمبر 2016 "كان نايم ومعرفش مين صحاه وقولتله هتسافر يا أحمد خلاص قالي آمال مين هيروح ايطاليا". كان يرتدي بنطال جينز أزرق غامق وقميص "بيج" ذات نقاط سوداء، ابن خالته كان يرتدي بنطال جينز وتيشيرت أبيض في أحمر.

لا مكان للراحة الآن في حياة الأم وشقيقتها "محمد ابني الصغير رايح أولى اعدادي بقيت بخاف عليه ولا بخرجه من قدام عنية حتى زمايله بيرحوا موسم حصاد البلح مبرداش حتى المحل الصغير اللي فتحناه علشان ناكل منه أنا وأبوهم وبسمة وهديل بناتي مش بوقفه فيه". 

بينما تستعيد شقيقة "محمد" ذكرياتها مع المفقدين، كأنها أمس "اتفاجأت بسفره مع أن كنت عارفة إنه هيسافر ودي مش أول مرة يحاول يسافر فيها قبل كده راح يومين عند السماسرة خزنه ورجع محصلش نصيب ورجع تاني بعد كام شهر فكر يروح هو وأحمد وإبراهيم..كان عنده أمل يعملو مستقبل ليه ولأخوتي الصغيرة ووالدي بعد ما وصل لـ50 سنة وهو لسه بيشيل خشب وخزف المراكب". تندب صاحبة الـ20 ربيعًا حظها وحظ أسرتها "عيال عمتهم سافروا كانوا مشين بعد الدبلوم والتاني في اولى إعدادي ووصلوا إيطاليا وهما هناك  دلوقتي وناس ياما من القرية هناك بيدخلهم المدارس وبعدين يديهم الإقامة وبيشتغلوا في البلد.. لكن حظنا منعرفش طريق اخواتي مع أن محمد كان بيعوم معرفش معمش ليه".




تتكرر حكاية الشقيقان داخل معظم بيوت القرية، فتظل والدة هيثم محمد ضافر، والذي كانت تناديه بـ"محمد"، تنتظر دخوله عليها في الذكرى الثانية لوفاته برغم رؤية جثته عقب مرور يومين على الحادث "دفنته في 23 سبتمبر مكناش لاقين جثته فضلت 3 أيام أروح للبحر علشان يجبهولي.. كنت حاسة من أخر مكالمة منه ليلة الحادث الساعة 2 بالليل وهو بيقولي نزلت المركب إنه مش هشوفه تاني". لم تعلم الأم المريضة بالسكر وسرطان بالغدة بسفر نجلها "كان بيشتغل باليومية يقعد يومين في البحر ويجيلي بـ20 جنية وأكلة سمك يتعشوبها وكنت رافضه سفره وخايفة عليه".

ذكرى ميلاد "هيثم" كانت في مطلع سبتمبر الجاري "إشعار الفيس بوك كان بيفكرنا بالذكرى.. ابني ضاع ابعتله تهنئة فين.. ملحقش يتهنى ولا اتهنى به كان على طول الوقت ملازمني وبيعني على تعبي وبيصبرني.. ولكن ضاعت أحلامنا وادفنت معاه ".