أحمد رمضان يكتب: كريسـماس مرزوق

ركن القراء



اشتد موسم الشتاء في  أوائل يناير، وراحت الرياح تحطم فى نوافذ البيوت من شدتها و تحرك فى تراب الشوارع، وبدت السماء أكثر ضباباً بعد أن شهدت البلاد موجة غير عادية من الصقيع المهلك للشباب قبل الكهول و الصغار مما جعل الناس يختفون فى بيوتهم أو تحت المعاطف ذات الفراء الكثيف.


وبينما أنا خارج من مستشفى كلية طب الاسنان بالقصر العيني، وقد اشتد البرد إلى أن وصل إلى أعلى الدرجات، عابراً الطريق متجها نحو الرصيف مسرعا نحو بيتى من هذا الصقيع القارص الذي دفن الناس إما في بيوتهم أو في سياراتهم، إذ بقوة رهيبة تجذبني من معطفي وكأنها صاعقة كهربائية التصقت بي، فالتفت ورائى فوجدت طفلاً صغيراً تستطيع أن تعد سنينه على صوابع يديك، و أكثر ما لفت انتباهي في هيئته تلك الطاقية المتسخة التى يضعها فوق رأسه و التى تعرف بطاقية الكريسماس، و أنا لا أدرى إذا كان هو مسيحى و يلبسها احتفالا بقدوم الكريسماس الذى يحتفل به المسيحيون الأرثوذكس فى السابع من يناير؟! أم كان يلبسها كما يفعل عدد غير قليل من المصرين الذين لا يعرفون الفرق بين رأس السنة والكريسماس، وعادة ما يلبسونها فى هذه الأيام؟! فهل هو مثلا يريد أن يحيى يوماً من البهجة و السعادة بعد أن فاتته الحفلات الليلية الموسيقية في أنحاء القاهرة والتي أحياها كبار الفنانين والمطربين في أشهر المسارح بعد أن عثرت عليها عيناه فى إحدى صناديق القمامة بعد أن تمتع بها واحد من أبناء الاغنياء ؟! أم هو يلبسها لتحميه من هذا الصقيع المهلك الذى حوط المكان من كل الاركان؟ّ!


رفع يده إلىّ بعد أن ارتفعت عيونه تجاهى بنظرات تطلب العطف و المساعدة متمتماً وقائلاً :


-     عمو و النبى هات جنيه.


فجثوت على ركبتى متجهاً بكل جسمى و مشاعرى تجاهه، ثم أخذته تحت كتفى، وأزحت التراب الذى طمس جمال و جه البرىء المنير، ومسحت فوق رأسه من تحت طاقية الكريسماس بعد أن قبلته فى جبينه , ثم سألته محركاً يدى على حواجبه قائلاً :


-       أين أمك؟


فردعلى بكلمات لم تعرف شيئاً عن المشاعر و كأنه أعتاد على هذا الفراق الذى طال عليه :


-       ماما مشيت.


وأنا لا أعرف أهى ذهبت لتبحث عن لقمة عيش له ولها؟! أم ذهبت إلى الموت بلا رجعة ؟!أم ذهبت و تركته من قلة حيلتها؟! ثم سألته عن اسمه  فأخبرنى بأنه يدعى مرزوق , و أنا لا أدرى , أهذا هو اسمه الحقيقى ؟! أم أن الناس قد لقبوه بهذا الاسم وصفاً لحالته؟! ولكن الحقيقة هو أيضاً لا يعرف ما سر تسميته بهذا الاسم .


 لكن ما سيطير على تفكيرى هذه المرة أنه لم يكرر طلب المساعدة و الإلحاح على المال و كأنه قد يأس من الحياة كيأس نوح من قومه، أخرجت محفظتى لكى أعطيه ما يكفى عشاء يومه . وبينما أنا أدس النقود فى يديه الضعيفة البريئة التى لم تلمس ماء النيل منذ زمن طويل , و الذى كان على بعد خطوات من مكان الحدث، إذ بهذا الطفل يتحول و جهه من الكآبة و الاشمئزاز إلى الجمال و البهجة كالفتاة التى تعود إليها ابتسامتها عندما يعيد إليها حبيبها لفظ بحبك بعد صمت طويل من الخلاف و الصراع . ثم راح يقفز فرحاً على الرصيف كالبهلوان متمتماً بكلمات ليست من أغانينا الهابطة، ولا من تلك التى غزت ثقافتنا العربية و لكنها تكشف عن مقومات الموهبة فى الجوانب الإيقاعية و العنائية لطفل قد فقد طعم الحياة العائلية، وذلك لأنه سينام الليلة شبعان، وظل على حالته حتى اختفى بين التراب المثار من تلك الرياح.