د. رشا سمير تكتب: مملكة الحب فى «خمسون جراما من الجنة»

مقالات الرأي



رواية تخطت الحدود الممنوعة بين العشق والحرب

نورا أبو صوان..حكاية صحفية سورية عاشت «أجواء الحرب» وتسلحت بشجاعة المقاومة


فى الحرب يتحدث البارود وتُغتصب الأوطان، وفى الحُب تهمس الورود وتتفتح أزهار الأحلام فوق أغصان الأمل، وفى الغرام تسكن العصافير أغصان الأشجار، وفى الشجار تنزلق أخلاق البشر إلى منحدر السقوط.

وفى المعارك تصم الأذان أصوات قرع الطبول، وفى العشق يعزف الكمان ألحان الشوق للنفوس الهائمة، فى الحرب يتمزق الأمان بين ضلوع البشر، وفى الحُب يعاد ترسيم حدود الأوطان بألوان قوس قزح.

حين يكتب التاريخ عن الحروب والمعارك يستعين بنابليون وهتلر وجنكيز خان، وحين يكتب عن العشق يبحث عن نزار قبانى وفيروز وشكسبير، هكذا تعودنا ألا يمتزج الحُب والحرب إلا فى الروايات، حيث نصنع التجاوزات ونستأذن النفوس الحائرة فى صناعة الخيال بأقلامنا.

هكذا تخطت رواية «خمسون جراما من الجنة» تلك الحدود الممنوعة بين الحُب والحرب، فى رواية صادرة عن  دار الساقى ببيروت فى عدد صفحات 224 صفحة عام 2016 للروائية إيمان حميدان.

«حميدان» روائية وصحفية وباحثة لبنانية، والحقيقة التى قرأتها بين سطور الرواية أنها مشغولة بالشأن العام فى لبنان أو تجرعت آلام الحرب مثلها مثل أى لبنانى قصف منزله وسقط بعض أفراد عائلته قتلى بسبب طلقة بارود تسببت فيها الفتنة الطائفية أو الأطماع السياسية للبلدان المجاورة.

مؤخرًا فازت الرواية بجائزة كتارا للرواية العربية التى تم تأسيسها فى الدوحة منذ أعوام قليلة، وهذا ما دفعنى بفضول الروائية أيضا أن ألتقطها من فوق أرفف المكتبة لأقرأها على أن ألمح بعين القارئ حيثيات الفوز، حيث أصبحت الجوائز مؤخرا يشوبها ألف شائبة بكل أسف.

الحقيقة وجدت أن الرواية تستحق بخلاف بعض النقاط البسيطة التى أجهدتنى أو أزعجتنى أثناء القراءة، حيث عودتكم النقد بعين الروائى وليس الناقد الأدبى.


1-  نورا.. بيروت 1978

تبدأ الرواية بلقطة عابرة تترتب عليها الأحداث، لقطة لنورا أبو صوان الصحفية السورية الهاربة من دمشق إلى بيروت حيث أقامت فيها وعاشت أجواء الحرب وتسلحت بشجاعة المقاومة.

من خلال فلاش باك لنورا وهى تسير فى شوارع بيروت، تتذكر حبيبها الأول سهيل الذى زارها وساعدته لينجو بنفسه ويهاجر كلاجئ سياسى إلى السويد، ومن بين أضواء السيارات وأبواقها تتذكر الكثير، أصدقاءها الذين اضطروا للهجرة هربا من الموت، ووالدها الذى خرج من السجن نصف رجل، وجدتها «شهلا» التى يرافقها صوتها رغم رحيلها منذ سنوات.

وبكل حزن أيضا تفكر فى شقيقتها هناء التى انتحرت ذات صيف بسبب علاقة آثمة مع ضابط تسبب فى حملها سفاحا، بين الذكريات والأحزان والأمنيات يبادرها رجل مخابرات سورى من سيارته بطلقات من مسدس كاتم الصوت، وينزل من سيارته ليرفعها من فوق الأرض إلى سيارته.

يطالعنا خبر تليفزيونى بانفجار سيارة فى منطقة الفاكهانى ببيروت، حرائق وسحب ودخان، ومن بين الضحايا امرأة فى بداية العقد الثالث من العمر قتلت جراء إصابتها بشظايا الانفجار.

إنها نورا.. وحتى هذه اللحظة من الرواية لا أحد يعلم لماذا قتلت بل لم ينكشف لنا حتى عن هويتها الكاملة، تأخذنا نورا إلى أكثر من حكاية أخرى تتشابه ليتشارك أبطالها فى شىء واحد وهو الحرب والحُب.


2- حزيران ١٩٩٤.. مايا

وتنتقل الرواية باسلوب «الفلاش باك» إلى مجموعة من الشخصيات الأخرى التى تتلاقى من خلال قاسم واحد، وهنا يجب أن أذكر أن الروائية استطاعت أن تربط بين الشرق والغرب والبعيد والقريب برابط مقنع للغاية، وهو مجموعة صور وخطابات وجدتها، إلا أنه حدث مستهلك ولطالما استعان به الروائيون لخلق نوع من الغموض، ربما لم يعد موجودًا من تكرار الاستعانة بنفس الأداة، وهى فكرة الصور والخطابات.

تهبط على الأحداث شخصية جديدة، هى البطلة الرئيسية للرواية، مايا، التى دخلت لتنسينا نورا وحادث اغتيالها، وتسرد الروائية بسلاسة نسوية قصة مايا مع زوج مصاب بالسرطان، هو زياد، والذى يموت ويدفن فى بلدته بالجنوب ويبقى ابنها شادى هو الشىء الوحيد المتبقى من زوج لم يترك لها حتى حق الذكرى العذبة.

تأخذنا الرواية من تلاحق الأحداث السريع جدًا للفصل الأول والاغتيال الغامض الذى جذب  القارئ ويدخله من حالة الجزع الشديد إلى حالة أكثر هدوءاً وسرد أكثر بطئا، وتفاجئ الروائية القراء بعد تعاطف موصول مع زوجة تضحى من أجل زوجها المريض بالسرطان، بأن مايا كرهت زوجها وكانت تخطط لطلب الطلاق قبل أن تعرف حقيقة إصابته بمرض السرطان.

وفى حوار مع صديقتها تكتب «حميدان» ببراعة حوار بسيط بينها وبين أختها يسفر عن السبب الحقيقى للطلاق، أو للفكرة التى لم يمنحها القدر فرصة التشبث بها،

تقول بكلمات تفهمها كل أنثى عانت من حرمان، فقتلتها حتى فكرة الشكوى للآخرين:

«زياد بطل يحبنى.. كيف بدى إبقى مع رجال ما بيقدر يلمسنى.. ماقرب لى من وقت حملى بشادى منذ ثلاث سنوات.. خلص»

وترد أختها الرد المعتاد لأى امرأة اعتادت الزواج لمجرد الشكل الاجتماعى:

«وين مشكلتك، عيشى كأنو مش موجود، كأنو ميت، بتقولى انو مش بيحبك! وشو علاقة الحب بالزواج؟ شو الزواج لعبة؟»

وهنا نقلت الروائية بقلمها السلس الحديث العادى الذى عادة ما يدور بين أى سيدتين متزوجتين فى عالمنا العربى، فواحدة ترى أن صناعة الحب من أهم فنون الزواج، والأخرى ترى أنها صناعة غير رائجة لأن الزواج قائم على زوج مقتدر ماديا وهذا ما جعل صحبته حتى لو كان مقصرا فى احتياجات زوجته، صُحبة تستحق التضحية، لأن المال دائما هو سيد الموقف وأقوى من كل المشاعر الأخرى.

وفى رحلة مايا لتصوير فيلم ضمن مشروع إعادة إعمار بيروت، كان عليها زيارة البيوت القريبة من ساحة رياض الصلح صعودا نحو زقاق البلاط، ووسط أرض التتخيتة، وبين بقايا رماد وتجمعات بقايا الإفرازات البشرية وجدت مايا رسومات بالفحم، ورسم لامرأة عارية وبين فخذيها جملة كتبت بشكل عامودى تقول «الموت هنا»، وعلى الجدار المقابل «لا إله إلا الله».

وسط الركام تلمح مايا حقيبة، تجد فيها لفافات من الأوراق الملتصقة ورسائل ومجموعة من الصور، وتأخذنا الصور والرسائل إلى كل أحداث الرواية اللاحقة، نعود معها إلى أعوام (1975-1978)، فلا تستطيع مايا منع نفسها من أخذها وتتبع ما فيها، وهى المغرمة بحكايات الناس الضائعة.

تنتقل الروائية بين الفصول بصيغة التواريخ والأماكن، فكل صورة تمسك الروائية طرفها وتسرد من خلال حقبة زمنية ومكان مختلف قصة لشخص ما، وتنتقل الرواية من أحضان بيروت إلى إسطانبول وبطل جديد، هو كمال.


3- إسطانبول ١٩٧٥.. كمال

يروى كمال من خلال رسائله إلى حبيبته نورا التى اغتيلت فى الفصل الأول بداية قصتهما، فكمال ناشط تركى الأصل التقته نورا بسبب تحقيق صحفى كانت تجريه عن المدن المتوسطية ومن بينها إسطانبول، فتولدت بينهما علاقة حُب.

يتبين لنا منذ الوهلة الأولى للخطابات التى تتوالى تباعا فى الرواية كيف التقى الحبيبان، وكيف تحول كمال وعائلته تحت الحكم الأتاتوركى فى إسطانبول وتحت سلسال الدم الذى تتوارثه الحضارة العثمانية من قصص اغتيالات وحروب ومؤامرات، تتحول العائلة إلى ضحايا وتتمزق تحت وطأة الصراع واعتناق المذاهب المختلفة.

وأرى أن كمال كان هو لسان حال الروائية فى أغلب الوقت، ففى أحداث أى رواية عادة ما يتقمص الأديب أحد شخوص روايته، فيتخفى تحت جلدها ويروع عذاباته وقناعاته بصوتها، وهذا يحدث طوال الوقت سواء شاء الروائى أم أبى الإفصاح.

ما أردت أن أقوله إن الروائية ربما بإرادتها وربما دون أن تدرى قررت أن تكون هى لسان حال، فسردت قناعاتها الشخصية باسمه، فمثلا يقول كمال:

«كأن الأوطان لم تبن يوما إلا على حساب شعوب عديدة، هذه حقيقة لا تكتب فى كتب التاريخ!»

ويقر أيضا: «جيلنا تربى على أغانى تعظيم الأوطان، الأوطان تلك التى قتلتنا باسمها، والتى بناها من انتصر، ولا مكان للمهزومين فيها. اكتشفت أن الوطن يستمد حياته من القوة ومن رفض المختلف، ولذا صرت على ما يبدو مثل أبى، أحلم بوطن مختلف أربى فيه أولادى وأزرع أشجارى واصطاد سمكى، وأكن الود لجارى الذى لا يشبهنى ولا يحكى لغتى، أحلم بمكان لا حروب فيه ولا سلاح».

يطرح كمال السؤال الصعب على حبيبته من خلال رسالة يقول فيها:

«نورا.. أسبوعان قضيناهما معاً فى إسطانبول غيّرا حياتى، هل هذه هى السعادة؟ هل هذا هو الحب؟»، ويبقى هذا هو السؤال الذى يطرق بابه كل العشاق فى مرحلة ما من مراحل علاقتهما، هل هو عشق أم اعتياد أم صدفة ولدت حالة من الهوى؟


4- خمسون جراما أم غراما؟

عندما سمعت عن الرواية جذبنى عنوانها بالتأكيد، فالعنوان هو أكثر شىء يبدو محيرا بالنسبة للكاتب، فالعنوان هو سبب وقوع القارئ فى قبضة الفخ الذى تنصبه عادة دور النشر، وأنا هنا لا أقصد الإساءة.

فالمحتوى لو كان جيداً لأصبح العنوان سببا فى رواجه، فكسبت الدار وكسب الكاتب وهو حق مكتسب لكليهما، أما إذا كان المحتوى ركيكا والعنوان جذابا، لباعت الرواية وندم القارئ الذى يقع فى فخ العنوان والغلاف دون وعى.

تصورت أن العنوان هو غراما، وتأكدت من المحترم الأستاذ عصام بو حمدان مدير عام النشر بدار الساقى، أن العنوان «خمسون جراما».. فتعجبت، ولكنه بحرفية الناشر قال لى إنه سيتركنى لأعرف سبب الاسم حين اقرأ الرواية، وكان العنوان هو مجرد حوار جاء على لسان البطل كمال وهو يكتب لحبيبته نورا فيقول لها:

«وفى القاهرة ذهبت إلى خان الخليلى، هناك رأيت عطارا يبيع العطور بقوارير زجاجية هشة انتظمت فى جمال أخاذ بألوانها المبهجة على الرفوف، شممت عطرا من قارورة صغيرة انعكست عليها ألوان قوس قزح، وأشرت له بيدى أننى أريده، فجأة سمعت العطار يسألنى بلكنة مصرية ظريفة: كم تريد يا سيدي؟ هل خمسون غراما من الجنة تكفى؟»

خمسون غراما من الجنة!، قال غراما ولم يقل ملليترا، ماذا يهم، قلت فى نفسى، يكفى أنه يعرض على الجنة، وأنا يكفينى غرام واحد من جنتنا معا».


5- ماردين بيروت.. وصباح

ترك ياسر عرفات بيروت مدمرة منكسرة، لكن رغم ذلك، جملته الأخيرة على شاطئ المدينة كانت «فلتركع أيها المجد لبيروت».

تلك كانت الكلمات التى استهلت بها صباح حكايتها حين ذهبت إليها مايا وفى يدها مجموعة من الصور، التى تحمل قصصا لأشخاص تعرفهم صباح بل لصباح نفسها، هى سيدة كبيرة فى السن عاصرت الكثير، استدلت عليها مايا بسهولة وشغف قررت بهما أن تبحث عنها وسط أنقاض المجتمع لتستمع إليها.

تروى صباح وتقول: «هاجر معظم من تبقى من اليهود فى بيروت إلى إسرائيل وأوروبا وأمريكا، منذ ذلك الوقت لم يركع المجد ولا مرة لبيروت، بل بيروت ركعت وأهينت وأذلت ليس على يد الجيش الإسرائيلى فحسب، بل أيضا على يد المخابرات السورية والجيش السورى وعلى أيدى الكثير من الميليشيات اللبنانية».

وتنتقل الروائية إلى قصة صباح التى عملت فى خدمة إبراهيم اليهودى واستمعت إليه عقب موت زوجته، ثم فجأة هاجر إلى إسرائيل دون علمها، هكذا فقدت صباح الأحباء فرداً فرداً، بدأت بفقدان حبيبها أحمد، ثم زوجها أحمد، وكل من أحبت بعد ذلك نورا وطفل نورا وكمال وتيمور والخواجة إبراهيم وصديقتها الوحيدة مريم.

حين رأت صباح الصور التى أتت بها مايا، بكت، فكرت مايا على الفور أن بكاءها سببه الشوق إلا أن صباح لأشياء لن تفهمها مايا ولن تستطيع أبدا أن تخمن سببها.

بكت ماردين.. بكت طفولتها وأمها المريضة، بكت حبها الضائع ووحدتها التى تسير نحو حافة الجنون، بكت اختفاء رجل لم تحبه ولكنها ألفت العيش معه، بكت حياتها وأحلامها وأوجاعها.


6- هناء.. عشق.. حُلم.. انتحار

تتهم المجتمعات العربية دائما المرأة التى تكتب بأنها تتحيز لبنات جنسها، فهى دون أن تقصد تتناول قضايا المرأة وتتصدى لهجوم المجتمع عليها وتصف المجتمع بالعنترية الذكورية، وطالما ما تكتب بلسان حال المرأة المقهورة.

قد يكون هذا الاتهام صحيحا فى بعض الأحيان وخاطئا فى الأحيان الأخرى، ولكن الأكيد أنه السلاح الأقوى الذى تشهره النساء فى وجه المجتمع، فالأدب النسوى كما يحلو للنقاد أن يصفوه هو أدب امرأة يُكتب لامرأة، وما العيب إذا كان هذا النوع من الأدب مثل مشرط الجراح الذى يبتر الساق إذا حدث بها غرغرينة، حيث لا بديل إلا البتر.. ولم لا؟!.

تروى الكاتبة هنا أيضا حكايات النساء المقهورات، من خلال وضع إصبعها على الجُرح مباشرة وهو معاناة المرأة فى مجتمعاتنا، فهى التى تتحمّل أوزار الرجال والمجتمعات، وتوابع الحرب والحُب، رغم أنها لا تشارك فى صنع الخسارة إلا أنها تشارك فى جنى ثمارها.

يحدث هذا من خلال شخصية هناء، التى قررت الانتحار عندما انزلقت إلى علاقة عابرة مع شاب أسفرت عن جنين لم تستطع أن تواجه بإثمها المجتمع فاختارت أن تنتحر.

تركت هناء وراءها رسالة تقول فيها:

«مامعنى الحب فى النهاية؟ ماقاله لى أبعد ما يكون عن الحب، أنا أيضا كنت أنساه لحظة ابتعاده عنى، كأنه منام خفيف عبر، كنت أشتهيه وكان الجنس معه يشبه كسر الجوع، وحين آكل أنسى ما أكلت، أنسى الجوع. لكن كنت أعلم فى أعماقى أنه، وإن سميته حبا فهو دون أفق، وأن الرجل الذى أعاشره لا أتمناه أبا لأطفالى وأننى عاجلا أم آجلا سأكون أمام موقف مماثل، وأن حملى الآن يضعنى أمام خيار واحد أو اثنين على الأكثر»

هل كان الانتحار أحد تلك الخيارين؟ الله وحده يعلم، هكذا تساءلت مايا طوال الوقت.

فكانت حكاية انتحار هناء التى كتبتها نورا ونشرتها بعد هربها إلى بيروت كى تفضح الظلم، هى السبب المباشر فى اغتيالها.

رسائل البداية والنهاية

الأولى:

قادتنا الروائية إلى رسالة واضحة فى النهاية، وهى أن قدر النساء هو الانتظار وتجرّع كأس الألم حتى لو لم يصنعان الخمر من الخنوع.

تخلو البلدة معظم فصول السنة من رجالها، يسافرون إلى المدن للعمل ويتركون النساء والأطفال فى البيوت، يعودون نهاية كل فصل ليومين أو ثلاثة ثم يرحلون من جديد وأحياناً لا يعودون طوال السنة.

نساء ينتظرن عودة رجالهن من أعمالهم، أو عودة المقاتلين من الحرب، إلا أن الحرب تأتى وتغيب، وهن ينتظرن بملابسهن الداكنة، فى انتظار الغيب الذى لا يأتى.


الثانية:

تُلخص الروائية حالة الوطن العربى والصراع المحتدم بفقرة استوقفتنى:

«هؤلاء الذين كتبوا التاريخ، هل ساروا أولا فى شوارع إسطانبول؟

تلك العلاقة الفريدة مع مدينة ما، كأنك تدخل التاريخ من بوابات لا تحصى ولا تنتهي».

ثمة تماثل خفى بين دمشق وبيروت وإسطانبول، ثمة تاريخ مشترك فى الثقافة والمزاج والقصص والرحالة، هى مدن التعدد وتعاقب الحضارات، هل ثمة كتابة لتاريخ بيروت ودمشق من دون العودة إلى إسطانبول؟

أن تكون فى بيروت يعنى أن تقف على حافة الموت اليومى، أن تقف بين حياة مشوهة لمدينة أو موت حتمى لها ونحن بات علينا أن نختار بين موت ما أو حياة لا نبض لها، علينا أن نختار بين أن نعيش بوجه مشوه أو بلا وجه على الإطلاق.


الثالثة:

يجب أن أعترف بأن الرواية سريعة وأحداثها متلاحقة يغير أنى شعرت بإرهاق شديد وأنا أحاول ملاحقة كم الأماكن والتواريخ، حيث الرواية تتنقل بين زمنين وعدة أماكن، إسطانبول وبيروت وباريس وفى النهاية يخرج العنوان من القاهرة.

لاشك أن أحداث الرواية تحتاج إلى تركيز كبير حتى لا تتوه التفاصيل والأزمنة، وأعتقد أنه من الأسهل على القارئ لو كانت الأحداث تتسلسل فى إطار الحكى المسترسل بدلا من العناوين الكثيرة والخطابات التى جعلت شيئاً من الملل يتسرب إلى المتلقى.

كما أن ظهور أكثر من صوت فى الحكى كلما تسارعت الأحداث، يجعل القارئ يتوقف متسائلا بعد كل فقرة: تُرى من الراوى؟ وهذا دون شك يفصل القارئ عن الاندماج بشكل أكبر فى أحداث الرواية.

تحية لروائية استطاعت أن تقدم شيئاً مختلفاً عن الشكل التقليدى للرواية فى زمان أصبح فيه كل من هب ودب كاتبا، إنها رواية تستحق القراءة.