د. رشا سمير تكتب: المعركة الكُبرى

مقالات الرأي



عندما إستقبل المؤرخ والكاتب الفرنسي أرنست رينو صديقه السياسي فرديناند ديليسبس فى الأكاديمية الفرنسية، كان حماس ديليسبس لفكرة حفر قناة تربط بين أكبر بحار العالم حماسا زائدا عن الحد، وبعقلية رينان الفذة كان يدرك أن الفكرة عبقرية..فأطلق يومها نبوءة تحققت بعد أعوام طويلة..
قال: " كان بوسفورا واحدا كافيا لإرباك العالم، وأنت قد صنعت الآن بوسفورا ثانيا أكثر أهمية من الأول، لأنه لا يقوم فقط بوصل جزئين من بحر داخلى، بل يمكن أن يُستعمل بإعتباره ممرا بين كل بحار العالم، وقد حددت بقناتك تلك، المكان الذى ستدور فيه معارك العالم الكُبرى فى المستقبل".
واليوم 6 أغسطس 2015 هو الغد الذى تحدث عنه رينان بالأمس..
ففى الوقت الذى يشق فيه مركب "المحروسة" اليوم مياه القناة وعلى متنها الرئيس عبد الفتاح السيسي، سوف تحلق طائرات إف 16 فى السماء لتعلن عن نجاح التحدى الأكبر لشعب ورئيس وحكومة ظنوا أن الوطن قد إختُطف من بين أيديهم..وفى لحظة فارقة تحققت المعجزة وعادت مصر..
اليوم يُطلق الرئيس السيسي الجُملة التى وعد بها الشعب منذ عام، وقت هاجمه البعض، وتحداه البعض وعانده البعض..وصدقه البعض..
اليوم يُفلح بعد أن صدق الوعد..ويتحقق الحُلم بعد عام، بسواعد مصرية، وعقائد مصرية وضمائر مصرية..
اليوم يُطلق الرئيس إشارة البدء قائلا " نحن عبد الفتاح السيسى نأذن ببدء تشغيل قناة السويس الجديدة ".
ومشوار الألف ميل يبدأ بكلمة..بفكرة..بحُلم..بتحدى..
الواقع أن ديليسبس لم يخترع قناة السويس، فهذا المشروع الضخم الذى إختصر نصف الطريق من أوروبا إلى أمريكا راود كل العقول المُفكرة منذ بداية القرن 19.
فكان بونابرت أول من فكر فيه، ولكن مهندسي الحملة الذين عملوا فى ظروف صعبة وإمكانيات متخاذلة كانوا قد وصلوا إلى نتيجة خاطئة وهى أن مستوى المياه فى البحر الأحمر أعلى منها فى البحر المتوسط بعشرة أمتار ولذا ينبغى أن تكون هناك أهوسة عديدة على القناة حتى لا تتعرض مصر للغرق..فمات الحُلم..
وتحركت من بعده جماعة السان سيمونيين  الذين وقعوا فى غرام الفكرة وفشلوا أيضا فى تنفيذها..
وبمجرد وصول الخديوى سعيد إلى الحُكم أخذ فرديناند السياسي العاشق لمصر أول مركب ليحاول إقناع صديقه بفكرة الحفر وصرف النظر عن فكرة الأهوسة لأن البحرين يقعان فى نفس المستوى.
تمكنت الفكرة من رأس الخديوى سعيد باشا، وقرر أن يبدأ فترة حكمه بمشروع ضخم يجعل الشعب يلتف حوله ويؤيده..
وهنا بدأ تحقيق الحُلم، مجرى مائى بطول 160 كم فى قلب الصحراء..وقد إصطدم المشروع فى بدايته طبعا بالباب العالى الذى لم يكن ليسمح أبدا بإستقلالية مصر..
فكان إفتتاح القناة يوم 17 نوفمبر عام 1869 حدثا عالميا، حدثا أجبر إنجلترا على الإعتراف بخطئها..
وها نحن اليوم 6 أغسطس 2015 نُجبر العالم كُله بالإعتراف بحق مصر وشعبها فى تقرير مصيرهم، اليوم فقط يعترف العالم بأن ثورتا يناير ويونيو ليسا سوى ثورة واحدة قامت لقدر أهدانا رئيس مصرى مهموم بحب الوطن قادر على أن يعيد أمجاد مصر ويعلو بها ولها.
لقد وسعت مصر القناة وعمقت مجراها فى اثنى عشرة مرة متتالية..
ولكن اليوم يتجه أنظار العالم إلى حُلم مختلف، ورسالة من نوع آخر..
التوسيع هو البداية فقط وتحويل المنطقة إلى منطقة تجارية عالمية هو الحُلم الجديد..وتبقى الرسالة الأكيدة وهى رسالة توجهها مصر شعبا وقيادة إلى العالم كله.. رسالة مُفادها أن مصر هى قلب الوطن العربي النابض، لو إنحنت لركع الوطن العربي بأكمله، ولو وقفت باسقة تناطح السحاب لاستظل بظلها كل الأوطان العربية الشقيقة..
اليوم فقط..نجحت ثورة مصر..وتحققت مقولة "رينان" على أرض الكنانة..
فمعركة البناء أشد ضراوة وصعوبة من معارك الهدم..
تحيا مصر..وأبدا ستحيا مصر بمشيئة الله..